حكاية إبداع-بقلم المبدع أيمن عبدربه
طفولتي تذكرني عندما كنت أصنع ألعابي من الأشياء المستخدمة كعلب البلاستك الفارغة من العصائر وعلب الكولا التي كنت أحولها إلى سيارات وشاحنات وجرافات وتركتورات وبيوت وأستمتع بها أنا وأصحابي وكنت أحب دائما اللهو بتلك الأشياء وأحولها إلى أشياء مفيدة وأخبرتني أمي قبل أيام عن تمكني في طفولتي من صناعة معصرة للزيتون من معلبات السمك وأنها أكلت الزيت بعد عصره في معصرتي اليدوية وحاولت كثيرا تذكر مكونات تلك المعصرة ولم أنجح حتى أصنعها من جديد وفي الانتفاضة الأولى كنت أحول الخيطان البلاستيكية إلى مقاليع أقوم بجدلها حتى يتكون مكان الحجر مثل عش العصفور وكنت كذلك أصنع من عصي الزيتون واللوز (الشعبة) التي تضرب الحجارة وفي مدرستي كانت لي حكايات مع استخدام الأشياء حيث كنت في مدرسة داخلية في أريحا في منطقة تسمى المشروع الإنشائي العربي فكنت أصنع من جريد النخيل أجمل الأشكال والأشياء الجميلة وكنت أستخرج من الأرض الرمل بكافة الألوان وأشكل المناظر الجميلة داخل العبوات الزجاجية الفارغة وكنت أحول الحجارة الملساء إلى (مديليات) جميلة مختلفة الأحجام والأشكال واهديها إلى الأحبة والأصدقاء.
وعندما أوقدت الشمعة السابعة عشرة من عمري كانت تنتظرني حياة لا شموع فيها لأن كل شموع الحياة تنطفئ في ذلك المكان إنه السجن المكان الذي أمضيت فيه عشرة سنوات من العمر فكانت البداية في 10/11/1990 حيث قمت بالتعبير عن غضب شاب فلسطيني عاش لحظات الحزن والحسرة في ساحات المسجد الأقصى وهي تشهد مذبحة صهيونية حاقدة استشهد عشرات الشهداء وأصيب المئات من المصلين العزل فكانت لي كلمة لفظتها بصوتي الغاضب على وحشية المحتل وقمت بطعن جندي في حي المصرارة في القدس الشريف وتم إصابتي برصاصهم واعتقالي وتم الحكم عليَّ بعشرة سنوات أمضيتها في مختلف سجون الاحتلال عابدا وقارئا وصابرا ومبدعا حتى منَّ الله عليَّ بالإفراج محطتي الأخيرة في سجون الاحتلال من سجن عسقلان وذلك في 8/1/2000.
وفي سجون الاحتلال وبين دياجير الظلام أوقدت شموع الإبداع والتميز فأخذت أتعلم كيف يحول الأسرى اللا شيء إلى أشياء مفيدة ومسلية وفي تلك السنوات الأولى من الأسر لم يكن مسموحا لنا إدخال المواد الفنية فكنا نصنعها بأيدينا فكنت أحول مخلفات الكرتون إلى براويز جميلة لوضع الصور فيها وكنت أصنع مجسم قبة الصخرة من الكرتون أزينها بالمواد الأولية المتاحة قدر الإمكان وأستفيد من عبوات معجون الأسنان المعدنية الفارغة والتي تتميز بلونها الداخلي الذهبي فكنت اصنع منها البراويز الجميلة وقبة الصخرة وخارطة فلسطين وأشياء أخرى وأصنع من مخلفات عبوات السجائر الكثير من المجسمات والبراويز وعجم الزيتون أصنع منه المسابح وبذرة الأبوكادوا كنت أصنع منها (المديليات) الجميلة وكذلك من أحجار الديمونوز التي كان يدخلها الصليب الأحمر فعندما كانت تصل إلى قدر الإتلاف فكنا نحولها إلى هدايا نخرجها مع ابداعاتنا إلى أهلنا ليحتفظوا بإبداعنا الذي يحكي حكايات معاناتنا خلف قضبان الظلم والظلام وبعد هذا الاعتقال الأول كان لي اعتقال ثاني في انتفاضة الأقصى حكم علي مدة سنتين في عام 2002 حتى العام 2004 واعتقال ثالث إداري في العام 2005 حتى العام 2008 وفي كل اعتقال كنت أتعلم المزيد من الإبداعات الفنية.
فتعلمت الكثير من الإبداعات الفنية وكيف أستفيد من الأشياء المستخدمة وأحتفظ بها بدلا من رميها في سلة القمامة من أصدقائي وإخواني الأسرى الأقدم مني حتى جاء اليوم الذي تم فيه انسجام تجربة الطفولة والمدرسة والسجن مع وظيفتي التي منحني إياها الرئيس الراحل أبو عمار رحمه الله تكرمة منه ضمن برنامج تأهيل الأسرى المحررين حيث كان توفيق الله عز وجل بان يكون نصيبي بأن أحجز مقعد الوظيفة في وزارة شؤون البيئة أو سلطة جودة البيئة والأستاذ جميل المطور السبب المباشر في توظيفي في تلك المؤسسة وهو صديق الأسر لعدة سنوات طوال وكان يشغل منصب نائب رئيس سلطة جودة البيئة وهو الآن القائم بأعمال رئيس سلطة جودة البيئة ولم أكن احمل الشهادات بالتخصصات البيئية ولم أكن على علم بعلم البيئة أو الثقافة البيئة فأخذت أطالع الكتب البيئة كجهد ذاتي حتى افهم البيئة ومصطلحاتها وعلمها ومجالاتها لأنني لا أحب أن ينطبق علي مثل ( زي الأطرش في الزفة) فانسجمت كثيرا في وظيفتي وفي المؤسسة البيئية وأحببت العمل فيها وأنا كنت حقيقة جالس على مكتبي دون تكليفي بأي عمل فكنت أشارك الزملاء الموظفين بعملهم حسب طلبهم.
وفي يوم من الأيام كنت على موعد مع ولادة فكرة جديدة عندما دعاني المدير المباشر لي في مكتب نابلس بأن أرافقه إلى إحدى مدارس مدينة نابلس لإجراء نشاط توعية بيئية وأثناء النشاط راقبت الطلاب وهم يتابعون المحاضر وهو يلقي موضوعه البيئي فمنهم من غلبه النعاس ومنهم من اخذ يلهوا ومنهم من كان شارد الذهن فقلت في نفسي إن الطلاب حقا يملون الكلام فهم من الساعة الثامنة حتى الواحدة يتلقون دروس العلم تباعا ونحن كمؤسسات يجب أن نقدم لهم اللقاءات التفاعلية بدلا عن الإلقاء الكلامي ومن خلال اللقاءات التفاعلية والترفيهية نقدم ما نريد من رسائل تربوية وسلوكية بيئية.
فأخذت أفكر ليل نهار بأسلوب جديد وتفاعلي ومرح أطور من خلاله أسلوب التوعية البيئية أثناء نشاطاتنا البيئية داخل المدارس مستفيدا من تجاربي في طفولتي ومدرستي وسنوات الإعتقال في سجون الإحتلال فكنت يوما ألعب في قارورة ماكنة خياطة أقلبها بين يدي فنظرت إلى الحركة وأخذت أكون في الفكرة في رأسي حتى نطق لساني بقولي: اجل أصنع لعبة فتوجهت إلى كرتونة قمت بإلقائها بجانب الباب حتى ألقيها في حاوية القمامة فصنعت مجسم اللعبة التي حملت موضوع فرز النفايات الصلبة وأسميتها دولاب الفرز فأخذت المجسم إلى الحج أبو صالح هواش وهو حداد ماهر يصنع الماكنات التوماتيكية الحديثة كماكنات القهوة والمطاحن المختلفة وهو يساعدني بما احتاجه من حديد ولحام وقص وتركيب دون مقابل فطرحت عليه الفكرة وقدمت له المجسم فحولها إلى لعبة كما هو في المجسم الذي صممته وبعد أيام قمت بتصميم لعبة موضوعها السلوكي وضع النفايات في المكان الصحيح ولعبة أخرى عن المحافظة على الطيور ومكانها الأشجار وليس الأقفاص الحديدية ولعبة رابعة عن سباق النظافة ومن يضع النفايات أولا في المكان الصحيح ولعبة خامسة عن فرز النفايات عن طريق السلال ولعبة سادسة عن التنوع الحيوي الحيواني وأهميته في ربوع البيئة وهذه الألعاب الستة الأولى التي قمت بابتكارها وتصميمها ولم أجربها في ذلك الحين إلا بعد أشهر من ابتكارها وتصميمها فهذه الألعاب التي فكرت باستخدامها كأسلوب تفاعلي مرح في التوعية البيئة في المدارس وميادين الأطفال فهي ألعاب وليس مجسمات تعليمية أو وسائل علمية فأردت أن أصنع لعبة بموضوع يمرح بها الطفل ويتعلم بمرح سلوك كيف يبني علاقة إحترام وحب مع بيئته ومصادرها ومواردها الطبيعية.
فكان لا بد مني أن أخطوا الخطوة الثانية بعد إيجادي للأسلوب التفاعلي وأحطم جدار الخوف والرهبة واقتحم ساحات الفئة العمرية المستهدفة من طلاب المدارس وفعلا جاء اليوم لتجربة الأسلوب الجديد وذهبت لتلبية دعوة الهلال الأحمر في عصيرة الشمالية لإجراء نشاط بيئي في النادي الصيفي السنوي الذي يقيمه الهلال الأحمر فرع عصرة الشمالية فقمت بالاستعداد لهذا اليوم وحمل الألعاب في السيارة والذهاب إلى عصيرة الشمالية ومع إقتراب المسافة تتسارع دقات القلب خوفا ورهبة من اللقاء حتى وصلنا مكان اللقاء وبعد الاستقبال والترحيب من قبل المشرفين على النادي الصيفي أعلمونا بجاهزية الطلاب في قاعة النشاطات حيث ينتظرنا 70طفلا تتراوح أعمارهم من 8سنوات حتى 16 السنة فحملت لعبتين والمشرفون حملوا الألعاب الأربعة الأخرى وكلما إقتربت إلى القاعة كلما زاد الخوف من فشل التجربة وعدم إنسجام الاطفال مع الألعاب ويفشل الأسلوب وما أصعب لحظات الفشل فاقتربت من باب القاعة وتسلحت برباطة الجأش وخطوت بخطوتي الأولى داخل القاعة ومن نظرة الأطفال الأولى للألعاب لفظت أفواههم كلمة (ياي) فهذه كلمة عندما عانقتها أذنيَّ انتشرت في كل عروقي وطردت الخوف والرهبة من كل جسدي وزغردت نواجذي بابتسامات النجاح والفرح والسرور فاستمر النشاط ما يقارب الساعتين حيث يتخلل نشاط الألعاب ثلاث فقرات الأولى شرح مختصر عن الألعاب من حيث الموضوع والهدف والرسالة والسلوك وكيفية اللعب والفقرة الثانية تمكن الطلاب من اللعب على الألعاب ليعيشوا المشهد العملي التفاعلي والفقرة الثالثة نتيح المجال لهم من طرح أفكارهم المماثلة وإبداعاتهم في هذا المجال وعندما انتهى النشاط إندفع الأطفال جميعهم نحو الألعاب وأخذوا يلعبون فأعطيتهم ساعة من الزمن زيادة عن الوقت الكلي المخصص للنشاط وهذا أكد لي نجاح الفكرة وعندما عدت إلى مكتبي قمت بكتابة أفكار جديدة لألعاب جديدة بموضوعات بيئية تربوية مختلفة.
فصار للألعاب البيئة صدا كبيرا في ميادين الأطفال وسرعان ما انتشر الخبر وانهالت عليَّ دعوات مشاركة الألعاب البيئية في أنشطة بيئية مختلفة في معظم محافظات الضفة الغربية حيث شاركت الألعاب البيئية التي صار عددها 89 لعبة في 450نشاط منذ انطلاقتها في مطلع العام 2010 حتى عامنا هذا العام 2015 فشاركت في لقاءات التوعية البيئة باستخدام الألعاب البيئة في المدارس الحكومية والخاصة والوكالة ورياض الأطفال والنوادي والمخيمات الصيفية والأمسيات الترفيهية والمعارض المختلفة ومدينة نابلس أخذت الحصة الكبيرة من النشاطات وبعض منها والقليل في رام الله وطولكرم والخليل وبيت لحم واريحا وقلقيلية وجنين وسلفيت وطوباس وامنيتي حقا أن أرسم الابتسامة على وجوه كل أطفال فلسطين.
فهذا التجربة التي تتمثل بابتكاري لعدد من الألعاب البيئية من مخلفات البيئة تبرق رسالتين الأولى: إعطاء فرصة حقيقية وعملية للأسرى المحررين في تمكينهم من خدمة أبناء شعبهم بإبداعاتهم التي اكتسبوها داخل قلاع الأسر. والرسالة الثانية: أن الموظف يستطيع أن يبدع ويعمل وينتج بأقل الإمكانيات إذا فكر وصمم على العمل والنجاح. وهناك العديد من الرسائل البيئية التي تبرقها كل لعبة بموضوعها البيئي التربوي.
فهذه الألعاب صممتها للأطفال وبعد مشاركتها في عدة معارض وجدت الكبار مقبلين أكثر من الصغار على الألعاب حيث استفاد منها ما يقارب 12الالف من كافة الفئات العمرية وتحديدا تتراوح أعمارهم ما بين السنتين حتى 60 عاما ولم ير أحدا تلك الألعاب المتواضعة الصنع والكبيرة بحركتها التقنية التي ترسم ابتسامة فرح ومرح على من يستمتع بها إلا ومدح وأشاد بأفكارها وموضوعاتها ووضوح رسائلها ورغم الإحباطات الكثيرة التي واجهتني في ميدان العمل إلا أنني لا يمكن أن أصاب بالإحباط لأنني أسير على قاعدة دائما ارددها وهي ( من يعمل لله لا يمكن أن يصاب بالإحباط) وأنا لست ماديا وادفع من جيبي الكثير من المال لشراء اللواصق ومحسنات مظهر الألعاب ولا اطمح بعوائد مادية واعمل باسم مؤسستي البيئية الحكومية وهي سلطة جودة البيئة وأنا أبذل الجهد الكبير بنقل الألعاب من مكان المكتب إلى حيث النشاط فانزل قرابة الأربعون درجة واصعدها كذلك وعقبة أخرى وهي المواصلات ورغبتي أن أصل كل مدرسة في كل محافظة من محافظات الوطن فالحل في ذلك الأمران هو وجود مخزن أرضي على شارع يرحمني من صعود ونزول الدرج ويرحم من أتعبهم معي من زملائي في مكتب نابلس وسيارة توصلني إلى كل طفل يحن إلى ابتسامة فرح ومرح فارجوا أن يتحقق ذلك على يد من يمدون يد العون لمن يبدعون في ميدان العمل وهمهم خدمة شعبهم بإخلاص وصدق.
وفي هذه الأيام لي محاولات عقد ورشات عمل لمعلمي ومعلمات المدارس المختلفة لعرض تجربتي وإعطائهم فنيات توضيحية من الاستفادة من المخلفات البيئية في عمل وسائل توضيحية لطلابهم وكذلك عقد ورشات فنية في مركز حمدي منكوا الثقافي التابع لبلدية نابلس باستضافة مجموعات من طلاب وطالبات المدارس وتعليمهم كيف يصنعون من النفايات فنا جميلا وتمكنت من عمل عشرون منظرا مفيدا من عبوات الكولا والعصائر الفارغة كأنواع الورود وقوارير الزراعة وغيرها من الأشياء المفيدة ودائما ابرق شعار( أشيائي بين يدي ابحث عنها وأصنعها قبل شرائها من الأسواق) والفوائد كبيرة وكثيرة التي تعود على بيئتنا بالفوائد وحمايتها من المخاطر وزيادة أعبائها ومشاكلها.
تمنياتي لكل الأجيال العيش في بيئة آمنة وصحية ونظيفة وجميلة وتجد الجل الذي يحتضنها بالحب والاحترام.
أيمن عبد ربه